فصل: مسألة صفة السوائب والبَحائر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة صفة إشعار البُدْن في الحج:

في صفة إشعار البُدْن في الحج قال: وحدثني عن ابن القاسم عن نافعِ عن أبي نعيم عن نافع مولى عبد الله بن عمر أنه كان يُشعر بُدْنهُ من الشقين جميعاً إذا كانت صعاباً مقرنة موثقة.
قال محمد بن رشد: زاد في هذا الحديث في هذا الرسم من هذا السماع من كتاب الحج. وَإِنًمَا كَانَ ابنُ عُمَرَ يَفْعَلُ هَذَا ليدللها بِذَلِك، وَلَيْسَ لأنَّ ذَلِكَ سُنَةُ إشْعَارِهَا، وَإِنَّمَا سُنةُ إِشْعَارِهَا، صَعْبَةً كَانَتْ أو دُلُلًا مِن الشَق الأيْسَرِ. وقوله: وإنما كان ابن عمر يفعل هذا ليدللها بذلك يدل على أنه يشعرها من الشقين جميعاً معاً خلاف ما ذهب إليه ابن المواز من أن معنى قوله من الشقين جميعاً أي من أيَ الشقين أمكنه ومثل تأويل ابن المواز حكى ابن حبيب عنه نصاً من رواية مطرف عن العمري عن نافع عن ابن عمر. وزاد في صفة الإِشعار أنه طولًا في سنامها وفي المدونة عرضاً وقوله: إِن السنة في الإِشعار أن تكون في الشق الأيسر، هو مثل ما في المدونة. وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أن الإِشعار في الشق الأيمن. وروي هذا كله في كتاب الحج. ووجه الإِشعار في الشق الأيسر وفي الأيمن وباللَه التوفيق.

.مسألة تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً:

في تفسير يَجِدْ فِي الأرْض مُرَاغَماً وسئل مالك عن قول اللَّه تعالى: {مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] قال المراغم الذهاب في الأرض، وَسَعَةً، سعة البلد.
قال محمد بن رشد: قوله: المراغَم الذهاب في الأرض بين في المعنى. يقول: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 100] أي ومن يهاجر في سبيل الله قومه وأهله، ويخرِج عنهم، ولا يبالي بأن يُعادوه، يجد في الأرض مراغماً كثيراً أي مضطرباَ ومطلَباً وتحولًا وسعةً في البلاد، وقيل: في الرزق، وقيل: في إظهار الدين، لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره، والمراغم والمهاجر واحد، تقول: راغمت وهاجرت، وأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغماً لهم، أي مغاضباً ومهاجراً أي مقاطعاً من الهجران، فقيل للمذهب مراغم، وللمصير إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ هجرة لأنها كانت بهجرة قومه. وباللَه تعالى التوفيق.

.مسألة أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء:

في أخذ الماء إلى الأذنين في الوضوء قال: وحدثني مالك عن نافع عن ابن عمر أَنه كَانَ يَمسحُ رَأسهُ بالْمَاء، وَيُدْخِلُ أصْبَعَهُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يُدْخِلُهَا فِي أُذُنِهِ.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وابن القاسم وجميع أصحابهما أن الأذنين يستأنف لهما الماء، فمسحهما مع استئناف الماء لهما سنة، والمنصوص عليه عن مالك أن الأذنين من الرأس، ويستأنف لهما الماء، فإنما السنة على هذا في استئناف الماء لهما، لأن بلة اليد تذهب في مسح الرأس، فيستأنف أخذ الماء لهما سنة. وقد قيل في غير المذهب: إنهما من الرأس يمسحان معه، ولا يستأنف لهما ماء. وقيل: إنهما من الوجه، يغسلان معه. وقيل: إن باطنهما من الوجه وظاهرهما من الرأس. والصواب ما ذهب إليه مالك يشهد بصحته الحديث، قوله: «إذَا تَوَضَّأ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَمَضْمَضَ خَرَجَ الْخَطَايَا من فِيهِ» إلى قوله: «فَإِذَا مَسَحَ رَأسَهُ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ رَأسِهِ حَتَى تَخْرُجَ مِنْ آذُنَيْهِ» وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة التكبير في العيدين:

في التكبير في العيدين وحدثني عن نافع عن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر قال: التَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الأولَى سَبْعاَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وفِي الآخِرَةِ خَمْساً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
قال محمد بن رشد: وقف نافع عن نافع هذا الحديث عن ابن عمر، وأسنده عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع عن ابن عمر عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وروي أيضاً عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبر في العيدين في الأضحى والفطر، في الركعة الأولى سبعاَ قبل القراءة، وفي الركعة الأخيرة خمساً قبل القراءة، على ما وقع في رسم من بعد هذا.
وهذا أمر متفق عليه في المذهب، في أن التكبير في صلاة العيدين سبعاً في الأولى بتكبيرة الإِحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة الإِحرام، وفي خارج المذهب في ذلك اختلاف كثير في عدد التكبير، وفي موضعه، لاختلاف الآثار في ذلك، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وعن جماعة من أصحابه، فروي عن النبي عيه السلام من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن التكبير في العيدين سبع في الأولى وخمس في الآخرة سوى تكبيرة الصلاة. وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن التكبير فيهما أربعٌ أربعٌ، مثل تكبير الجنائز، وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان يكبر في النحر خمس تكبيرات: ثلاثٌ في الأولى واثنتين في الثانية، وأنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ، ثم يكبر خمساً، يركع بإحداهن. وفي موضع التكبير ثلاثة أقوال:
أحدها: مذهب مالك أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الآخرة قبل القراءة، فلا يوالي بين التكبيرتين، ولا بين القراءتين.
والثاني: أنه يكبر في الأولى والثانية بعد القراءة، فيوالي بين التكبير، ولا يوالي بين القراءة، وهو الذي مضى عن علي بن أبي طالب.
والثالث: أنه يكبر في الأولى قبل القراءة، وفي الثانية بعد القراءة، فيوالي بين القراءة، ولا يوالي بين التكبير. وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد على ما روي من أن عمر بن الخطاب وعبد الله اجتمع رأيُهما في تكبير العيدين على تسع تكبيرات. خمس في الأولى، وأربع في الآخرة. وبالله التوفيق.

.مسألة من أسباب السعادة:

فيما يقال فيه: إنه من السعادة قال مالك يقال: من السعادة المرأة الصالحة، والمسكَنُ الوَاسع، والدابة الصالحة.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بيِّن، لأن من اجتمعت له هذه الثلاثة الأشياء، فقد سلم في دنياه.

.مسألة براءة هل يقال فيها بسم الله الرحمن الرحيم:

في براءة هل يقال فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال: وسئل مالك عن براءة يقرأ فيها بسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم قال مالك: تقرأ كما أُنزلت ليس فيها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في هذه المسألة في أول رسم من هذا السماع مستوفى فلا معنى لِإعادته وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة التحري في الشهادة:

في التحري في الشهادة قال مالك: قال عمر بن الخطاب لرجل: أتشهد أنه شرب خمراً قال: أشهد أنه قاءها. قال عمر: هذا التعمق، يعني في الشهادة.
قال محمد بن رشد: في هذا: إنه يجوز للرجل أن يشهد بما علمه من جهة النظر والاستدلال كما يجوز له أن يشهد بما علمه ضرورة بالعيان، لأن عمر بن الخطاب أمر الرجل وهو أبو هريرة أن يشهد أنه شربها وهو لم يعاين شربه إياها، وإنما عاين أنه قاءها، فلما توقف عن الشهادة بذلك، قال له: ما هذا التعمق؟ يعني في الشهادة.
وقد مضى هذا الوجه الذي توقف أبو هريرة من أجله على الشهادة أنه شربها في رسم الأشربة والحدود من سماع أشهب من كتاب الحدود في القذف، وهو يحتمل أنه لم يشربها باختياره، وإنما أكره عليها، فصُبت في حلقه، ولم ير عمر الشهادة تبطل بهذا الاحتمال، لأن أمره يحمل على أنه شربها باختياره، إذ لم يدَّع أنه أُكره على شربها، وإنما أنكر أن يكون شربها. وفي قول عمر لأبي هريرة: أتشهد أنه شربها؟ دليل بين واضح على أن القاضي لا يقضي بعلمه. وبالله تبارك وتعالى التوفيق.

.مسألة فضل الشهادة في سبيل الله:

في فضل الشهادة في سبيل الله قال مالك: وحدثني يحيى بن سعيد «أن رجلَاَ يسمى حارثهّ استشهد يوم بدرٍ وأن أمه حزنت عليه، فاجتمع إليها النساء يعزينها وقلن ما لك لا تبكين على حارثة؟ فقالت: لا أبكي عليه حتى يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسأله، فإن كان في الجنة لا أبكي عليه، وإن كان غير هذا فسترين بكائي، قال: فعجلت فلقيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند بير أبي عنبة عند الحرة، فقالت: يا رسول الله: أَقُتِلَ حَارِثَة؟ قال: نَعَمْ، قالت: أفي الْجَنَّةِ هُو؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أمَّ حَارِثَةَ، إنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ وإنَّهُ فِي الْفِرْدَوْس الأعْلَى.» قال مالك: «إن عبد الله بن عمرو بن حرام أبا جابر بن عبد الله صاحب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان استشهد يوم أحد، وأنه كان عليه دين قد رهقه فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان الجداد فآذني فأَذنته فوضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده ودعا فيه فكال منه لأهل دينه وبقي بعد ذلك مثل الذي كان فيه قبل قضاء الدين».
قال محمد بن رشد: حارثة المذكور في الحديث الأول هو حارثة بن سُراقة بن الحارث الأنصاري من بني النجار، شهد بدراً فكان أول قتيل قتل فيه، رماه حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، فأَصاب حنجرته فقتله. وفيه أن منزلة الشهيد في سبيل الله، أرفعُ المنازل في الجنة عند الله. قال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية. وبير أبي عنبة على ميل من المدينة خرجت إلى النبي فتلقته عند البير المذكور. وأما حديث عبد الله بن حرام ففيه علم جليل من أعلام نبوة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، لأنه كان عليه من الدين أكثر مما في الحائط من الثمر بكثير، لا يشك في ذلك، فكال منه لأهل دينه جميع ديونهم وبقي بعد ذلك من الثمر مثل ما كان فيه قبل قضاء الدين ببركة دعاء النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. وفي قوله: فكال منه لأهل دينه وبقي منه بعد ذلك مثل الذي كان فيه بعد قضاء الدين، تقديم وتأخير، وصواب الكلام دون تقديم ولا تأخير فكال منه لأهل دينه، وبقي منه بعد ذلك بعد قضاء الدين مثل الذي كان.
ففي بعض الآثار: وَبَقِيَ لَنَا خَرْص نَخْلِنَا كَمَا هُوَ. وفي بعضها: وَفَضِلَ مِنْة مِثْلُ ثَمَرِ النَّخْل فِي كلِّ عَامٍ. والحديث يروى من وجوه كثيرة بألفاظ مختلفة، وعلى المعجزة في ذلك متفقة. منها ما روي «عن جابر بن عبد الله أن أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيداً وَعَلَيْهِ ديْنٌ، فَاشْتَدَّ الْغُرَمَاءُ فِي حقُوقِهِم. قَالَ جَابِرٌ: فَأَتَيْتُ النَّبيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَلَّمْتُهُ، فَسَأَلَهُم أَنْ يَقبَلُوا ثَمَرَ حَائِطِي وَيُحَلٍّلُوا أَبِي فَأبَوْا، فَلَمْ يُعْطِهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطِي وَلَمْ يَكْسِرْهُ لَهُم وَلَكِنَّهُ قَالَ: سَأَغْدُو عَلَيْكَ، فَغَدَاه عَلَيَّ حِينَ أَصْبَحَ، فَطَافَ فِي النَّخْل وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكَةِ». الحديث، وفي هذا الحديث من الفقه أنه من كان له على رجل مكيلة ثمر فجائز له أن يأخذ منه فيما له من المكيلة ثمراً جِزافاً في رءوس النخل إذا كان قد استجد وحان قِطافه، إذا لم يشك أن ذلك مما كان له من المكيلة، ويحلله من بقية حقه، وهو مذهب مالك. ومن أهل العلم من يخالفه في ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة سؤال الِإمارة:

في النهي عن سؤال الِإمارة قال مالك: سمعت وكان مما يحدث به الناس أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «لَا تَسَل الْإمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ تعَنْ عَلَيْهَا وَإِنَّكَ إِنْ تُؤتَهَا عَنْ مَسألَتِهَا تُوكَلْ إلَيْهَا».
قال محمد بن رشد: الذي قال ذلك له النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عبد الرحمن بن سَمُرة، كذلك في البُخاري عنه. والمعنى في هذا الحديث بيِّن. فيه من الفقه أنه لا ينبغي أن يولى القضاء من أراده، وإن اجتمعت فيه شروط القضاء، مخافة أن يوكل إليه، فلا يقوم به، ولا يقوى عليه. قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنا لَا نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أرَادَ» ونظر عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى شاب في وفد وفدَ عليه، فاستحلاه وأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء فقال له عمر: كدت أن تغُرنا بنفسك، إن الأمر لا يقوَى عليه من يُحبه.

.مسألة ما يُحذَّر من فساد الزمان:

فيما يُحذَّر من فساد الزمان قال مالك: يوشك أن يأتي على الناس زمان يَقل فيه الخير في الدين، ويقل فيه الخير في الدنيا.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا قول رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ُثَم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» وقال عبد الله بن مسعود: ما من عامٍ إلا وَالذي بعده شر منه. واللَّه أعلم. وبه التوفيق.

.مسألة صفة السوائب والبَحائر:

في السوائب والبَحائر قال: وحدثني عيسى عن ابن القاسم عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أوَّلُ مَن نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغيًرَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ عَمْرُو بنُ لحَيّ. وَلَقَدّ رَأيْتُه في النَّارِ يَجُرُّ قُصْبَهُ يُؤذِي أهْلَ النَّارِ بِرَائِحَتِهِ. وأوَّل مَنْ بَحّرَ الْبَحَائِرَ رَجُلٌ مِن بَنِي مُدْلِجٍ، عَمَدَ إِلى نَاقَتَيْنِ لَهُ فَجَذَعَ أذناهما وَحَرَّمَ ألكانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثمَّ احْتَاجَ إِلَيْهِمَا فَشَربَ ألْبَانَهُمَا وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَقَدْ رَأيْتُهُ وإياهُمَا يخْبِطَانِهِ بِأخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا».
قال محمد بن رشد: قد اختلف في صفات المسميات بهذه الأسماء. وما السبب الذي من أجله كانت العرب تفعل ذلك. فروي عن أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأكثمَ بن الجَوْن الخُزاعي، يَا أكثمُ رَأيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحيِّ يَجُرّ ُقُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأيْتُ مِن رَجُلٍ أشْبَهَ مِنْ رَجلٍ منك به وَلَا به منك. قالَ أكثمُ: أَيَضُرّنِي شَبَهُهُ يَا نَبِيَّ الله قَالَ: لاَ لِأنًكَ مُؤْمِن وَهُوَ كَافِر وَإِنًهُ كَانَ أوّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الأوْثَانَ وَسَيَبَ السَّائِبَةَ فِيهِمْ» وَإِن ذلك الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر، سيبت فلم تُركب ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى تشق أذنها ثم خلى سبيلها مع أمها في الِإبل، فلم يُركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها فهي البَحِيرة، ابنة السائبة، والوصيلة إن الشاة إذا أنتجت عشرة إناث متتابعات، في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكر منهم، دون إناثهم، إِلَا أن يموت منها شيء، فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم، والحامي إن الفحل إذا تم له عشر إناث متتابعات، ليس فيهن ذكر، قالوا: حما ظهره فلم يركب، ولم يجز وَبره ويخلى في إبله يضرب فيها، ولا يتبع به لغير ذلك. قال اللَّه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] الآية، وقال قتادة: البحيرة من الإِبل، كانت الناقة إذا انتجت خمسة أبطن، فإن كانت الخامسة ذكراً كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بتكوا أذنها ثم أرسلوها فلم ينحروا لها ولداً. ولم يشربوا لها لبنَاَ ولم يركبوا لها ظهراً.
وأما السائبة فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم، فلا تمنع حوضاً أن تشرع فيه، ولا مرْعى أن ترْتع فيه، والوصيلة الشاة كانت إذا وَلدت سبعة أبطن، فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تركت.
وقالوا أيضَاَ: إن الوصيلة: الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جدْياً وإن كان عناقَاَ استحيوها، وإن كان جَدياً وعناقاً استحيوهما كليهما، وقالوا: إن الجدي وصلته أخته فحرمته علينا. وجملة القول في هذه الآية: إن القوم كانوا يحرمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، اتباعاً منهم لخطوات الشيطان، فوبخهم اللَّه بذلك. ولا يضر الجهل بكيفية ذلك. واختلف في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] في المعني بالذين كفروا، وبالمراد بقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] فقيل: الذين كفروا هاهنا أهل الكتاب، والذين لا يعقلون أهل الأديان، وقيل هم أهل ملة واحدة. والمفترون المبتدعون والذين لا يعقلون، الأتباع، وقيل هم مشركوا العرب، لأن الابتداء كان فيهم فالخبر بهم أولى من غيرهم إذا لم يكن عَرَضَ في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. والقُصْب: المِعَي في قوله: يجر قُصْبه والجمع الأقصاب، والبَحِيرة المشقوقة الأذن، والبَحْر الشقّ. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النًارِ يَجُر قُصْبَهُ وفِي أهْلَ النارِ بِرَائِحَتِهِ». معناهُ: أنه عرضت عليه النار في الدنيا ممثلة، فرآه فيها ممثلًا في الدنيا على الحال التي تكون عليها في الآخرة، لأن الآخرة هي دار الجزاء والعقاب التي يصير الناس فيها فريقين: فريقٌ فِي الْجَنَةِ، وَفَرِيقٌ فِي السعيرِ. وباللهَ التوفيق.

.مسألة أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:

فيمن هو أحب الناس إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وحدثني عن ابن القاسم عن مالك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثاً وَأمَرَ عَلَيْهِم أسَامَهَّ بْنَ زَيدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إمَارَتِهِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِن تَطْعَنُوا فِي إمَارَتِهِ، فَقَدْ كنْتُم تَطْعَنُونَ فِي إمَارَةِ أبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَأيْمُ اللَّهِ إنْ كَانَ لَخَلِيقاً بِالِإمَارَةِ وَإِن كَانَ لَمِنْ أحَبِّ الناس إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أحَبِّ النَّاس إِلَيَّ بَعْدَه».
قال محمد بن رشد: قَدْ روي «أنَّ عَلِيّاً سَألَ النَّبَي عَلَيْهِ السَّلَامُ: أيُّ النَّاس أحَبُّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أسْألُكَ عَنِ النِّسَاءِ، وَإِنَّما أسْألُكَ عَنِ الرِّجَال، قَالَ: مَنْ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأنْعَمْت عَلَيْهِ أسَامَةُ بْنُ زَيْدِ. قَالَ عَلِيّ: ثَم مَنْ؟ فَقَالَ: ثُمَّ أنْتَ، فَقَالَ الْعَباسُ شِبْهَ الْمُغْضَبِ: ثمَّ مَنْ يَا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ثمَّ عَمَي، فقَالَ: جَعَلتَ عمكَ آخِرَ الْقَوْم، فَقَالَ: يَا عَباسُ، إِنَّ عَلِياً سَبَقَكَ بِالْهِجرَةِ». ورُوي «أن عَمْرو بْنَ العاص سَأل النبيَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ أحَبّ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنَ الرجَالِ، قَالَ أبُوهَا. قُلْتُ: ثَُم مَنْ؟ قَالَ: عُمَرَ بْنُ الْخَطّابِ، فَعَدَ رِجالاً.» وَرُوي أنَّ عَائِشَةَ سُئِلَتَ عَنْ أَي أصْحَابِ رَسُول اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أحبّ إِلَيْهِ؟ قَالَتْ: أبُو بَكرِ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَ أبو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجرَاحِ. وَرويَ عنها أنَّهُ ذُكِرَ لَهَا عَلِيٌّ فَقَالَتْ: مَا رَأيْتُ رَجلا كَانَ أحَبَّ إِلَى رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَلَا امْرَأةٌ أحَب إلَى رَسُول اللَهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ امرأَتهِ.
والحكم في هذه الأحاديث أن لا تحمل على التعارض، وأن تصحح بِأن يُقال: إِن أهل بيت النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أحب إليه ممن سواهم، وإن أحب أهل بيته إليه من النساء، فاطمة، ومن الرجال علي بن أبي طالب، ثم العباس، لأن ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقديمه أسامة على علي في محبته إياه كان واللَّه أعلم إذ كان من أهل بيته، تبنَّى ابنه زيداً لأنه كان اْبن ابنه، فلما نسخ اللَّه ذلك بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وقوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] فخرج عن أن يكون من أهل بيته، ذهب المعنَى الذي من أجله تقدم في محبته، فعادت المحبة إلى من ذكر بعده، وهو علي بن أبي طالب، وأن أحب، من سِوى أهل بيته إليه من النساء، عائشة، ومن الرجال أبوها، ثم عمر بن الخطاب، ثم أبو عبيدة بن الجراح واللَّه الموفق.

.مسألة ما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب ذنباً بخلاف مَن سواه:

فيما جاء من أن يحيى بن زكرياء لم يُذنب ذنباً بخلاف مَن سواه وحدثني ابن القاسم عن مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: ما من الناس أحد إلا يلقى اللَّه يومَ القيامة ذا ذنب، إلا يحيى بن زكرياء، فإن اللَّه تعالى ذكر يحيى فقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] قال: ثم ذُبح ذبحاً قال: ثم تناول سعيد بن المسيب شيئا من الأرض صغيراً فقال: لم يكن ذَكَرُه إِلا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: الحديث مرفوع إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ومثله لا يكون رأْيا. رواه سعيد بن المسيب عن ابن العاص سمع رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولهُ ذَنْب إِلَّا مَا كَانَ مِنْ يِحْيَى ابْنِ زَكَرِياء» وذكر الحديث. وفي قوله: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِن يَحْيَى ابْنِ زَكَرِيًاءَ دليل ظاهر على أن الأنبياء غير معصومين من الذنوب الصغائر، إذ لا اختلاف أنهم معصومون من الكبائر.
ويدل على ذلك من القرآن قوله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وقد قيل: إِنهم معصومون من الصغائر والكبائر، وأن الخطاب في قوله تعالى للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ والمراد به أمته. والمعنى في ذلك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. في الدين لتهتدي به أنت والمسلمون فيكون ذلك سبباً لغفران ذنوبهم. والأظهر أن الخطاب في ذلك للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأن المعنى فيه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. إِنا حكمنا لك حكماً يبين به لمن سمعه أو بلغه أنا قضينا لك بالنصر والظفر على من خالفك، وناصبك من كفار قومك، لتشكر ربك على ذلك وتسبحه وتستغفره فيغفر لك بفعلك ذلك، ما تقدم من ذنبك وما تأخر. وقيل: عَنَى بالفتح، فتح مكة، فيغفر له على شكره ذلك ما تقدم من ذنبه قبل الفتح وما تأخر عنه، وقيل: ما تقدم من ذنبه قبل الرسالة، وما تأخر عنها. وقيل: ما تقدم من ذنبه يوم بدر، وما تأخر عنه يوم حُنْينٍ، وذلك أن الذنب المتقدم يوم بدرٍ أنه جعل يدعو ويقول: «إِنْ تَهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدُ فِي الأرْض أبَداً» فأوحى اللَّه إليه من أين تعلم أنه إن أهلكتُ هذه العصبة لا أعبد في الأرض؟ فكان هذا الذنب المتقدم، وأما الذنب المتأخر، فيوم حُنيْنٍ لَما انهزم الناس، «قال لعمِّه الْعبّاس، ولابن عَمِّه أبي سفيان: ناوِلاني تحفْاً مِنْ حَصَاةِ الْوَادي فَنَاوَلَاهُ فَأخَذَهُ بِيَدِه وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْكُفّار، وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، لَا ينصَرُونَ، فَانْهَزَُم الْمُشْرِكُونَ عَن آخِرِهِم، وَلَمْ يَبْقَ أحدٌ إِلّاَ امْتَلَأتْ عَيْنَاهُ رَمْلاً وَحَصاً ثمَّ نَادى أصْحَابَه، فَرَجَعُوا فَقَالَ لَهُم عِنْدَ رُجُوعِهِم: لَو لَمْ أرْمِهِم لَمْ يَنْهَزِمُوا فَأنْزَلَ اللًهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]». فكان هذا هو الذنب المتأخر. واللَه أعلم.
والذي أقول به: إِن الأنبياء معصومون من القصد إلى إتيان الصغائر، كما أنهم معصومون من القصد إلى إتيان الكبائر، إلا أنهم يؤاخذون لمكانهم ومنزلهم بما ليس بكبائر ولا صغائر، في حق من سواهم. وهذا نحو قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ وَلَا أمْلِكُ» فسأل الله عز وجل أن لا يؤاخذه بما ليس في وسعه، ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن يغفر ذلك له، وإن كان الله قد تجاوز لعباده عنه بقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ونحو ما كان من شأنه مع ابن أم مكتوم حتى عاتبه اللَّه على ذلك بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 2]، إلى قوله: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] والحَصور الذي لا يقدر على جماع النساء. ومنه حصر الخطيب في خطبته، والقارئ في قراءته. ومنه حصر العدو. وقوله: ذُبح ذبحاً قد مضى الكلام على السبب الذي من أجله ذبح في رسم نذر سنة قبل هذا فلا معنى لإِعادته.

.مسألة أشراط الساعة:

فيما هو من أشراط الساعة وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن معمر بن مُحيريز، قال: من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت، فلا يشك من يراه أنه يدخل لسوء إِلَاّ أن الجُدُر تواريه.
قال محمد بن رشد: يريد: إِن من أشراطها المؤذنة بقربها، أن يكثر الفسوق في الناس، ويشتهر المتهمون به، فإذا رُئي الواحد منهم يدخل البيت الذي يتهّم أهلُه بالمكروه، لم يشك رائيه أنه يدخله لسوء يريده لغلبة ظنه بذلك، وهي كثيرة. من ذلك أن يؤتمن الخائن، ويخون الأمين، وأن يوسَّد الأمر إلى غير أهله وأنْ تَلِدَ الأمةُ رَّبَّتَها. على ما أتت به الروايات عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. وهي أكثر من أن تحصى.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشراطها، إذ لا نبي بعده قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتَ أنَا وَالساعَةَ كَهَاتيْنِ وَأشَارَ بِأصْبُعِه الْوُسْطَى الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ». وأما الأشراط الكبار التي بين يدي الساعة، فمنهما الدابة، ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وباللَّه التوفيق.

.مسألة ما أعلم النبي عليه السلام به من الفتنة التي تكون بعده:

فيما أعلم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ به من الفتنة التي تكون بعده قال مالك: «ذكر النبي عليه السلام فتنة، فقالوا: يا رسول اللَّه ما النجاةُ منها؟ فقال: تَرْجِعُوَنَ إِلَى أمْرِكُمُ الأوَّل». قال مالك: «قال النبي عليه السلام لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: يَا عَبْدَ اللَّهِ، كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ الناس قَدْ مَرِجَتْ عُهُودهم وَأمَانَتُهُم وَاخْتَلَفُوا وَشَبَّكَ بَيْنَ أصابِع يَدِهِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَدَعُ عوَامَّهُم وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ».
قال محمد بن رشد: في هذا علم من أعلام نبوة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، لأنه أخبر بما كان بعده من الفتون والاختلاف، ودل على وجه السلامة من ذلك بقوله: «تَرْجِعُونَ إِلَى أمْرِكُم الأوَّل». يريد التمسك بكتاب الله. وباللَّه التوفيق.

.مسألة ترك تولي الولاية للرَّجُل:

في أن ترك تولي الولاية للرَّجُل خير له قال مالك: دعا عمر بن الخطاب رجلاً ليوليه ولاية فأبَى فجعل عمر يديره عليها، فقال الرجل: نَشَدْتُكَ باللَّه أي ذلك تعلم أنه خيرٌ لي؟ قال: تركها خير لك.
قال محمد بن رشد: في رواية أخرى قال: فاعفني، قال: قد فعلت. وإنما رأى عمر بن الخطاب ترك الولاية خيرا له، وإن كان في العمل فيها بالصواب أجر عظيم، مخافة أن لا يتخلص في عمله، ويضعف عن إقامة الواجب عليه فيها، ولا يعدلُ بالسلامة شيء. وإذا كان عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول: وددت أني أَنجُو مِنْ هَذَا الأمْرِ كَفَافَاً لَا لِي وَلَا عَلًيّ، فكيف بمن بعده من الناس؟ وبالله التوفيق.